كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثامنة عشرة قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} معطوف على ما قبله، و{أَنْ} في محل رفع، أي وحُرم عليكم الاستقسام.
والأزلام قِداح المَيْسر، واحدها زلَمَ وزُلم؛ قال:
باتَ يُقَاسيها غلامٌ كالزَّلَم

وقال آخر فجمع:
فَلَئِنْ جَذِيمة قَتّلتَ سَرَواتها ** فنساؤها يَضِربن بالأزلامِ

وذكر محمد بن جرير: أن ابن وَكِيع حدّثهم عن أبيه عن شُرَيك عن أبي حُصَين عن سعيد بن جُبير أن الأزلام حَصَى بيض كانوا يضربون بها.
قال محمد بن جرير: قال لنا سفيان بن وكيع: هي الشَّطْرَنجْ.
فأما قول لبيد:
تَزِلُّ عن الثّرى أزلامها

فقالوا: أراد أظلاف البقرة الوحشية.
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:
منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها افعل، وعلى الثاني لا تفعل، والثالث مُهْمَل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فِعْل شيء أدخل يده وهي متشابهة فإذا خَرَج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القِدْح الذي لا شيء عليه أعاد الضّرب؛ وهذه هي التي ضَرَب بها سُرَاقَة بن مالك بن جُعْشُم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة؛ وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرّزق وما يريدون؛ كما يقال: الاستسقاء في الاستدعاء للسّقي.
ونظير هذا الذي حرّمه الله تعالى قول المُنَجم: لا تخرج من أجل نَجْم كذا، واخرج من أجل نَجْم كذا.
وقال جل وعزّ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] الآية.
وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله.
والنوع الثاني سبعة قِداح كانت عند هُبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النّوازِل، كل قِدْح منها فيه كتاب؛ قِدح فيه العَقْل من أمر الدّيات، وفي آخر «منكم» وفي آخر «من غيركم»، وفي آخر «مُلْصَق»، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك؛ وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بَنِيه إذ كان نَذر نَحرْ أحدهم إذا كملوا عشرة؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق.
وهذه السبعة أيضًا كانت عند كل كاهِن من كهان العرب وحكامهم؛ على نحو ما كانت في الكعبة عند هُبَل.
والنوع الثالث هو قِدَاح المَيْسر وهي عشرة؛ سبعة منها فيها حُظُوظ، وثلاثة أغفال، وكانوا يضربون بها مقامرة لَهْوا ولَعِبا، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمُعْدِم في زمن الشّتاء وكَلَب البَرْد وتعذّر التَحرّف.
وقال مجاهد: الأزلام هي كِعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها.
وقال سفيان ووكِيع: هي الشَّطْرَنْج؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القَسْم والنَصِيب كما بيّنا، وهو من أكل المال بالباطل، وهو حرام، وكل مُقَامَرة بحَمامَ أو بنَردْ أو شِطْرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كلّه؛ وهو ضرب من التّكَهَن والتعرّض لدعوى عِلم الغَيْب.
قال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المُنَجِّمون على الطرقات من السهام التي معهم، ورِقاع الفأل في أشباه ذلك.
وقال الكِيَا الطبري: وإنما نَهَى الله عنها فيما يتعلقّ بأمور الغيب؛ فإنه لا تدري نفس ماذا يُصِيبها غَدًا، فليس للأزلام في تعريف المغيبّات أثر؛ فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الردّ على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العِتق، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بُني على الأخبار الصحيحة، وليس مما يُعْتَرض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام؛ فإن العتق حكم شرعي، يجوز أن يجعل الشّرع خروج القُرْعَة علمًا على إثبات حكم العِتق قَطْعًا للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل: إذا فَعَلت كذا أو قُلْت كذا فذلك يَدلّك في المستقبل.
، على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يُجعَل خروج القِدَاح عَلَما على شيء يتجدّد في المستقبل، ويجوز أن يَجْعَل خروج القُرْعَة عَلَمًا على العتْق قَطْعًا؛ فظهر افتراق البابيْن.
التاسعة عشرة وليس من هذا الباب طلب الفأْل.
وكان عليه الصلاة والسلام يُعجبه أن يسمع يا راشد يا نَجيح؛ أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح غريب؛ وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النّفْس وتَستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل: فيحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، وقد قال:
«أنا عند ظنّ عبدي بي» وكان عليه السلام يكره الطِّيرة؛ لأنها من أعمال أهل الشِّرْك؛ ولأنها تجلب ظنّ السّوء بالله عزّ وجلّ.
قال الخطابي: الفرق بين الفأْل والطيِّرة أن الفأْل إنما هو من طريق حسن الظّنّ بالله، والطيِّرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه.
وقال الأصمعي: سألت ابن عَوْن عن الفأل فقال: هو أن يكون مريضًا فيسمع يا سالم، أو يكون باغيًا فيسمع يا واجد، وهذا معنى حديث الترمذي؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طيِرة وخَيْرُها الفَأَل» قيل: يا رسول الله وما الفأَل؟ قال: «الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم» وسيأتي لمعنى الطِّيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
رُوي عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: إنما العِلْم بالتّعلُّم والحِلْم بالتَحلُّم، ومن يتَحرّ الخير يُعْطَه، ومن يَتَوقَّ الشَّرّ يُوقَه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تَكَهّن أو استقسم أو رجع من سَفَر من طيرة.
الموفية عشرين قوله تعالى: {ذلكم فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام.
والفِسْق الخروج، وقد تقدّم.
وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرّمات، وكل شيء منها فِسق وخروج من الحلال إلى الحرام، والاْنكفاف عن هذه المحرّمات من الوفاء بالعقود؛ إذ قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
الحادية والعشرون قوله تعالى: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفّارًا.
قال الضّحاك: نزلت هذه الآية حين فتح مكة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَح مكة لثمان بَقين من رمضان سنة تِسع، ويقال: سنة ثمان، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَلاَ من قال لا إله إلاَّ الله فهو آمِن، ومن وضَع السَّلاح فهو آمِن، ومن أغلق بابه فهو آمِن» وفي «يئس» لغتان؛ يَئِسَ ييئس يأسًا، وأَيِس يَأْيسَ إياسًا وإياسَة؛ قاله النضر بن شُمَيْل.
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم.
الثانية والعشرون قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلاَّ فريضة الصَّلاة وحدها، فلما قَدِم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حجّ؛ فلما حجّ وكمل الدين نزلت هذه الآية {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية؛ على ما نبيّنه.
رَوى الأئمّة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أُنزلت معشر اليهود لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا؛ قال: وأيّ آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي أُنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَفَة في يوم جُمعة.
لفظ مسلم.
وعند النسائي ليلة جمعة.
ورُوِي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيك»؟ فقال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من دِيننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلاَّ نَقَص.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقت» ورَوى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة.
قلت: القول الأول أصحّ، أنها نزلت في يوم جُمعة وكان يوم عَرَفة بعد العصر في حجّة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعَرَفَة على ناقته العَضْبَاء، فكاد عضدُ الناقة يَنْقَدّ من ثقلها فبركت.
و{اليوم} قد يُعبَّر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول: فعلنا في شهر كذا كذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السَّنَة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعَجم.
والدِّين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نُجُومًا وآخر ما نَزَل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حُكْم، قاله ابن عباس والسُّدّي.
وقال الجمهور: المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الرّبا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج، إذ لم يَطُف معهم في هذه السَّنَة مُشرك، ولا طاف بالبيت عُريان، ووقف الناس كلّهم بعرفة.
وقيل: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بأن أهلكت لكم عدوّكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول: قد تمّ لنا ما نريد إذا كُفِيت عدوّك.
الثالثة والعشرون قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وَعَدتكم، إذ قلت: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وهي دخول مكة آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملّة الحنيفيّة إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى.
الرابعة والعشرون لعل قائلًا يقول: قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يدلّ على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شَهدوا بَدْرًا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعًا، وبَذَلوا أنفسهم لِلَّهِ مع عظيم ما حَلّ بهم من أنواع المِحَن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دِين ناقص، ومعلوم أن النَّقْص عَيْب، ودين الله تعالى قِيمَ، كما قال تعالى: {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] فالجواب أن يُقال له: لم قلت إن كلّ نقص فهو عَيْب وما دليلك عليه؟ ثم يُقال له: أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيْبًا، ونقصان صلاة المسافر أهو عَيْب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] أهو عَيْب له، ونُقْصان أيام الحيض عن المعهود، ونُقْصان أيام الحمل، ونقصان المال بِسَرقة أو حرِيق أو غَرَق إذا لم يَفْتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدّين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشَيْن ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يخرج على وجهين:
أحدهما أن يكون المراد بلّغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدّرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصًا نُقْصان عيب، لكنه يُوصف بنقصان مُقَيّد فيقال له: إنه كان ناقصًا عما كان عند الله تعالى أنه مُلْحِقه به وضَامُّه إليه؛ كالرجل يُبلغه الله مائة سنة فيقال: أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عُمره حين كان ابن ستّين كان ناقصًا نقص قصور وخلل؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه في العمر» ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيّد فيقال: كان ناقصًا عما كان عند الله تعالى أنه مُبلغه إياه ومُعمّره إليه.
وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحًا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة قصور وخلَلَ؛ ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضَامُّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحًا فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئًا فشيئًا إلى أن أنهى الله الدِّين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم.